موقعي الخاص بابداعاتي رومانسياتي

مدونة تهتم بالإبداع الشعري و الأدبي و الخواطر الصادقة و التأملات..

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

أرشيف المدونة الإلكترونية


الاثنين، 17 أغسطس 2015

ذكريات الجامع و الفقيه و المسيد و الكُتاب في عين الصغير

صرت في ربيعي الخامس و كما جرت العادة في وسط تقليدي فقير ان يودعني أبي الكتاب القرآني كان أقرب كتاب إلى منزلنا لا يبعد إلا بخمس دقائق مشيا.
جامع عتيق لا يميزه عن باقي منازل الحي العشوائي إلا حوض لمسح الألواح الخشبية و صراخ الحفظة ورائحة العرق و الصمغ. دخلنا، فبادر أبي بالسلام، فهب الفقيه واقفا و جلبابه القديم المنكمش يأبى القيام، و تقدم الشيخ المبجل ذراعا و تقدم أبي إليه باعا و انشق  وجه الفقيه عن ابتسامة متكلفة مخصصة للكبار دون الصغار. 
بادر أبي بالكلام بجديته المعتادة، و هو يسلمني برفق للفقيه و عيون الصغير الجاحظة تدور في محجرها لتمسح المكان و تتطلع لمصدر الصراخ العجيب:
ـ لقد كبر ابني و صار أهلا لتعلم القراءة و حفظ القرآن.
رفعت عيني في الفقيه و كفه تعبث بشعر رأسي المأهول بالقمل.  
ـ مرحبا أدخل يا ولدي!
تقدمت الخطوات بالصغير و هو خلفها يشاور نفسه. مازال خائفا يستمع لقلبه بداخل قفصه الصدري كعصفور مرعوب.
 ما إن رمقني الصغار حتى كفت الألسنة عن التلاوة، و حلت محلها حركات الشقاوة. فشرعوا في الغمز و اللمز و منهم من عرفني فتزحزح ـ بغير قيام ـ ليفسح لي مكانا بجانبه، لكني انعزلت و بقيت واقفا وعصفوري بداخلي يكاد ينفجر.
تقدم أبي ليضخ الشجاعة في قلب صغيره المرعوب:
ـ كن رجلا مثل الآخرين!
 وانسحب و كان آخر عهده بقاعة الدرس.
كان خروجه كالصاعقة أحسست بعده بما تحس به القمامة  عند رميها، فصرخت بجنون فكانت الصرخة الثالثة من نوعها بعد صرخة الخروج من البطن الحنون و صرخة الخروج من الحضن اللبون و ها أنا أخرج من البيت الدافئ بعيدا عن كل ما يمت للطفولة بصلة.

ما هي إلا صيحة واحدة من فوهة الفقيه، ليجد السفيه نفسه مغروسا بين الأقران.  بعد بضع زفرات ذات فقاعات، غرز الفقيه لوحة خشبية عتيقة و مشقوقة في حجري و عليها خرابيش، عرفت بعد دهر أنها حروف الهجاء، حال هذا اللوح بيني و بين العالم فلم أعد أراه إلا من خلال ذلك الشق الضيق.
نقر الكبير من كرسيه العالي بقصبته الطويلة على رأس الصغير، ليهز رأسه، فيشير الكبير بأن يتقدم الصغير. توجهت نحو الفقيه بخطوات بطيئة كالمسيح يجر صليبه، ليبدأ أول درس في حياتي التعليمية: الليف. البا. تا. تا المعجومة. الجيم الحا الخا..أعد.
و كان للفقيه غلام مقيم في الجامع تولى مهمة تحفيظه القرآن ليعده فقيها من نفس فصيلته. و كان قد حفظ من القرآن أحزابا كثيرة، لا يرى إلا و اللوح معه، حتى خيل لي أنه جزء من جسده. كان هزيل البنية، قصير القامة، شاخ قبل شبابه، احدودب ظهره من فرط انكبابه على اللوح. يظل يردد الآيات تلو الآيات بصوت شجي ذي حشرجات
وقد يسهو ـ و كثيرا ما يفعل ـ فتطفو طفولته على السطح، فيزيح اللوح عن وجهه الحزين، ليداعب أحد الأطفال، من زوار الحوض، فيكون صمته إنذارا للفقيه على التخاذل لينهال على الشقي بوبال من الضرب المبرح ليستأنف الحفظ ممزوجا بالبكاء. و حالته تبكي الرائي صوتا و صورة.
و كان ذلك يجعلنا نرتعب من الفقيه و نحسب له الحساب. فصار هذا الطالب المسكين مثله كمثل كلب القراد الذي يربي قردته و يرعبها بجلد كلبه أمامها فتمتثل لأوامره.
جرت العادة كل يوم ثلاثاء قبل الخروج أن نردد جماعة بأمر من الفقيه حتى لا ننسى الواجب الأسبوعي:
ـ لي ما جاب لاربعا أشبوح.
وهي تعويذة تنذر من لم يحضر  يوم الأربعاء نصف درهم بأن  يحمله يومئذ أربعة من أطرافه الأربعة  و يتكلف الفقيه بجلده، و قد تنسل ملابسه فيلتصق السوط بجلد البطن فترى المذنب يتلوى من شدة الألم لا يرجو رحمة من لا رحمة في قلبه و لكن كل ما يرجوه هو ألا يسقط السوط على منطقة واحدة مرتين فيلتهب الجلد.. و تلك قمة الألم.
من ذكريات ذ. لحسن الحماس  مدونة    رومانسياتي

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

تطوير : مدونة رومانسياتي