بالنسبة لنا نحن الصغار لم يكن رمضان شهرا من الأشهر الزمنية، كما فهمناه
بعد زمن، بل كان جملة من طقوس و ممارسات و كلام و تعاويذ، تتجلى في حياتنا اليومية
صوتا وصورة.
حدثتنا الجدة عن جدتها
عن رمضان فقالت:
ـ شيخ مسن، كريم، طويل القامة، منير
الهامة، محدودب الكاهل، يلوح في الآفاق من بعيد، يحمل فطيرا، و تمرا، نفرح بإدباره
تماما كما نفرح بإقباله.
و كثيرا ما كنت
أصعد إلى الحالق لعلي أرى الشيخ
المزعوم، فلا أرى
إلا أبي يهرول نازلا من سطح البيت الترابي مبشرا أهل بيته برؤية الهلال.
من بين ما لاحظت
وأنا صغير، أن الأكل لا يكون إلا بالليل ينطلق بأمر من المؤذن و يتوقف بأمره. تماما
كما يبدأ الشهر برؤية الشيخ الأحدب و ينتهي برؤيته.
كنا صغار المقلدين
نتباهى ـ و لو كاذبين ـ بالصيام، فنخرج ألسنتنا مبرهنين على صدق الكلام، ومنا من
يخرج لسانه و هو يخفي رغيفه خلف ظهره.
و كنت من السباقين
إلى الصوم طول اليوم ليس لمجاراة القوم و ليس إيمانا واحتسابا و إنما حبا في نعيم
السحور.
وما أدراك ما يعنيه السحور بالنسبة إلينا معشر
القوارض الصغار!؟.
كنت أصحو قبل الفجر
على صوت فرقعات الحطب الجاف في تنور النار، و على رائحة خبز <البطبوط > و على صورة أمي
و هي عاكفة على تكويم ما نضج منه في طبق القش.
وقد تعم البشرى و تتكرم الأم فتوقظ الجميع لوجبة
النعيم، فتبعث الروح في الأجثاث المصطفة في البيت
الترابي العتيق يتحلقون على الحصير حول المرفع القصير الأخضر ثلاثي الأرجل على ضوء
الشمعة و حلقة أخرى أكبر من ظلال الأكلة مرسومة على الجدران. العيون شبه مقفلة لكن
الشهية غير ذلك، الهضم جار مضغا و بلعا. وكيف لا و قد كان طعام السحور شهيا:
الطجين الطيني المطبوخ على نار هادئة و لحمه الناضج المعسل و البطبوط الساخن
المخبوز بحنان بكف ذات حناء.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق