لم يكن يوم دخولي المدرسة بأسعد من يوم دخولي
الكتاب. فقد تعودت على هذا الأخير ليس حبا في رحابه، و لا
تمسكا بمحـرابه، ولا حتى لوجوده في نفس
حـــارتنا، و إنما هو ببساطة الإذعان للأمر الواقع.
أعددت الأم صغيرها، فصار نظيف الملبس، ناعم الملمس،
كي يرافقها إلى المدرسة الابتدائية، رفقة الجدي لأمه، يقفز يمنة ويسرة فرحا و بهجة.
لكن أمام بوابة المدرسة الحديدية، تبدل الحال، ما
إن أحسستُ ببوادر الفراق، حتى تمسك قرد الرباح بأمه بشدة، و غرق في ثنايا ثوبها، و
قد أطلق صراخه إلى أقصاه، فتدخل حارس المــــدرسة الزنجي لينتزعني من أهـــداب أمي بمشقة
و قسوة. و انهال علي بالضرب ليمر أمام المدير، قصير
القامة ذي الوجه العابس، ليساهم بدوره بما ملكت يمينه مُصادقاً على ما يفعله
الحارس و مشاركا في حفاوة الاستقبال.
سلمني
الزنجي بعد ذلك مجرورا للــمعلمة، كجدي أعد للذبح، و هي أكثر خبرة و أكثر احتكاكا
بهؤلاء البلداء من أبناء الحي العشوائي، تعرفهم بسيماهم من أثر العراك.
أجلستني في المقعد الأخير بجانب تلميذ أحول
العينين، طويل الرقبة، لم يُرحني الجلوسُ بجواره فاكتفيتُ بمراقبته حذراً من خطره
و خُبث طويته.
بعد لحظات
من جلوسي، تقدم الأحول نحو المعلمة رافعا سبابته:
ـ أستاذة التلميذ الجديد يسرق محابر المداد.
فتقدم الأحول نحوي يجر
المعلمة خلفه و الغضب باد على وجهها الشاحب.
تقدم الجار و
المجرور نحو فارغ الدهن. انحنى الواشي ثم انحنت المعلمة، ليجدا المسروقات في قمطر
الطاولة !!
جرّت المعلمةُ المجرمَ
من أدنه، و تبعها" المجرم" خوفا على أدنه. و توجهت به نحو مكتبها. أمسكت جيدا بالعصا، فبدأ
المظلوم في التوسل و لكن كلامه دهب أدراج الرياح، لا الدمع ينفع و لا القاضي يسمع.
التهبت يداي فلم أستطع مدهما. فبدأتُ أتراجع إلى
الوراء فلم أشعر حتى تكسّرتْ قنينة الحبر، فتدفق السائل الأزرق و نشرته الأقدام
بدل الأقلام فتلطخ القسم. و بلغ غضب المعلمة أوجه فطردتني من القسم كما طردتني من
رحمتها.
عدت إلى البيت كسير الخاطر ـ و لما
يحن الأوان ـ و حالتي لا تسر الناظر. سارعَت الأم لاستقبالي و هي تتساءل عن الأمر:
ـ ماذا حدث و لماذا عدت قبل الأوان.....!؟
حال إحساسي بالظلم بيني و بين الكلام، فازداد
الاستنطاق. و بعدما هدأت الأم من روعي، رَويتُ القصّة.. و بعد مجيئ أبي من العمل، زفّتْ له الخبر، فركبتُ وراءه الدراجة النارية، و انطلق غاضبا مؤمنا بصدق فلذة كبده.
استقبلنا المدير، وكان في نفس قامة و
سن و جدية أبي. ما إن سمع الشكوى حتى أمر بحضور المعلمة سعاد، ليبادرها بسؤال
استنكاري:
ـ كيف تعاقبين التلميذ على سرقة المحابر
بحجة و جودها في القمطر و لم تتأكدي ممن و ضعها بالفعل؟
فردت المعلمة بدهاء مجانب للحقيقة:
ـ لم أكن لأعاقبه لولا أني وجدتها في جيب
سرواله...
فهب أبي محتجا و أوقفني مخاطبا المديرـ
القاضي:
ـ عما تتحدث المعلمة و سروال الطفل خال
من الجيوب؟!
بلعت المدعية ريقها بمرارة، و كان المدير
ينتظر منها جوابا يحفظ له ماء وجهه. لكن الحق أزهق الباطل، فلم يكن منه إلا أن
طردها من مكتبه ملزما إياها بعدم التعرض لهذا البريء ثانية.
و قُضي الأمرُ.. ليقضي البريء سنته الأولى
كاملة في الصف الأخير بعيدا عن شر معلمته و خيرها. من ذكريات ذ. لحسن الحماس.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق